تحت عباءة
جدتي يغفو العراق :
تحت عباءة
جدتي تنام بملءِ أحلامها الطيور وتغفو على صدى ترانيمها القلوب . تحت عباءة جدتي
بحر متلاطم من الحب لا ينضب على مر الدهور والعصور وعنفوان عشق سرمدي الوجود . . ومدن
من الإيثار وعواصم وفاء تفوق الخيال . تحت عباءة جدتي وطن جريح وقبر شهيد وطفل
صغير بشظايا الغدر مذبوح . عباءة جدتي رغم سوادها الحالك من خلالها يبصر النور
ورغم صغر حجمها فهي خيمة أمل نستفئ بظلها في أحنك الظروف . عباءة جدتي درع واق من
الهموم وهلال عيد اليتيم وضحكة بشفاه مقهور . حين أكون تحت عباءة جدتي تأخذني
الذكريات دون وجع هذه المرة فأستذكر زماناً كانت فيه قطرات المطر أكثر اكتنازا
بالماء عندما تدغدغ بشغف وجه الأرض فيتعشق الأوكسجين المذاب بملح التربة لينبت قوس
أمل ولحن سلام . كان للشمس مذاق وكان للشمس عطر حين تشرق وحين تغادر ارض العراق . كانت
النجوم تخبئ أنوثتها على خجل بين طيات أمواج شط العرب خوفاً أن يرى صورتها القمر
تنعكس على وجه الماء . زمان كانت الأيام أكثر فقراً وأكثر برداً لكنها أقل هماً
وأقل قتلاً . .عجيب هذا العراق كل شيء فيه يغري وكأن الله لأجله دحى الأرض ورفع
السماء وجعل أرضه مثوى للأنبياء والصالحين والأولياء . عجيب وغريب هذا العراق
لاكته الرزايا والملمات العظام بكلتا فكيها منذ نعومة أظافره . . وتكالبت علية
النائبات والأحقاد من أقرب المقربين له . . وتلاقى طعنات الإخوة والأصدقاء جهاراً
نهاراً . . وذبحت أطفاله أمام عينيه بدم بارد بلا رحمة غير أنه لم ينثن ولم ينحن
قيد أنملة أبى إلا أن يكون مشرئب العنق أبى إلا أن يصافح عنان السماء أبى إلا أن
يكون كالثريا وللآخرين الثرى .تشرفت أرضه أن تحتضن موط أول قدم لأول سفير معتمد من
قبل السماء . ناطح كل الحضارات وكل الثقافات حتى نطق لسان البشرية بأول حرف من بين
شفتيه السومرية وسن أول قانون حين كانت الإنسانية تقبع في ظلام دامس من الجهل
والهمجية . كان وطن للإنسان قبل أن يكون وطن للديانات . كان كعبة العشاق قبل أن
يكون ارض للقوميات . كان ملاذ الخائفين وصومعة العلم ومسجد العارفين . كان أنموذج
يحتذى بأخلاقه ومبادئه قبل أن يكون قطعة أرض تحتوي مجموعة من البشر . . فلم يكن سيابه
واهماً عندما قال : ( الشمس أجمل في بلادي من سواها . . حتى الظلام هناك أجمل فهو
يحتضن العراق ) . . فهذا الوطن المتجذر في أصالته وعمقه التاريخي بعد أن مرست ضده
كل المؤامرات وكل صنوف الاختبارات من حروب طويلة ومعاناة ومجاعة وحصارات وطغاة
غادرت وأخرى عادت وقتل على الهوية وقطع أعناق وأرزاق لهو قادر ان ينهض من جديد
كالعنقاء ويسقط جميع الرهانات ويعيد للنخيل ابتسامته وللزرازير زغزغتها ويلوك
بفكيه كل الرزايا والنائبات . . وتشرق من جديد شمس العراق التي لا تعلوها شمس ولا تحويها
مجرة من مجرات الكون . . . فالسلام على جدتي والسلام على عباءة جدتي والسلام على
وطن يضم رفاة الجدات . . .
مقال نشر
لي في جريدة الزمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق