دللول حمــد يبني
دللول
( 5 )
تعثرت بأذيال عباءتها التي مزقتها سنوات العوز وايام الحصار
وانقضت بجسدها النحيل مثل الناقة الحانية على وليدها الجميل والانيق وهو يرتدي ثياب
عرس الشهادة البيضاء النقية واحتضنته بشهقة الامهات تهزّ ذات اليمين وذات الشمال ذلك
الجسد المسجى امامها والملفوف بالعلم العراقي وتنادي مرارا وتختنق تكرارا وتتلعثم كثيرا
بنوتة حروف اسمه الملحونة بموسيقى الحان السماء وهي محاطة ببكاء وعويل نساء القرية
حاولت ولأكثر من مره ان ترفع الكفن عن وجهه الوسيم لتقتل في نفسها هاجس الشك وتمحو
من مخيلتها شوائب الظن بين التكذيب والتصديق .. لكن يداها المرتعشتان لا تطاوعاها وبعد
صراع مرير دام لأكثر من سبعة ألاف سنه من عمر سومر كشفت وعلى مضض عن وجهه المعفر بتراب
الوطن . . نعم انه (حمد) لم يتغير منه شيء سوى لونه الأبيض الباهت الذي يوحي ببراءة
الموتى وعطره الذي اصبح اضوع من المسك . . وأخيرا عاد (حمد) من جديد ولكن هذه المرة
يعود افقيا الى احضان امه منذ أن فارقها ليمتطي جواد الترحال ويستقل القطار المتوجه
الى الموصل ولا يدري لماذا اختار قطار الليل وهو لا يعلم ان المحطات التي سيتوقف عندها
القطار هي محطات ملغومه ومعادية فكل ظنه ان جميع محطات العراق يسمع فيها (دگ اگهوه)
ويشم منها رائحة الهيل ولأنه يعرف صحراء الرمادي جيدا صاح غير آبه ( نازل ياقطار الشوگ
هاي ديرتنه) كان (حمد) في ايام الحصار يطوف المقابر ليلا ويتساءل اذا ما مات من اين
يأتي بثمن الكفن والاهم من ذلك كله كيف يكون بكامل قيافة الاموات البيضاء بلا ناعيات
وحبيبته (غيده) غادرت مع قصب البردي ودجاج ماء الهور الى خارج نطاق المحسوسات بعد ان
جفف الرفاق المناضلون الهور واحالته الى ارض جرداء خاليه من الزرع والماء .. وسار موكب
الموت بطيئا رتيبا بين طرقات قريته النائية والبعيدة عن ركب الحداثة تحيطه حزمة قصب
احتضنت جسدا كان يوما ينبض حياةً وأملاً .. امهُ نظرت بذهول بعد أن استعادت شيئا من
وعيها الى الأرض المزروعة بحبات القمح والممتدة نحو الأفق كأنها تراها لأول مرة ابتلعت
شهقة عميقة ثم أطلقت صرخة مدوية مزقت السكون ( أما ارتويت دما يا أرض سومر؟ )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق