وأخيراً عاد سالماً الى أرض الغربة حمــد
( 8 )
حمد دائما كان يلتحف الذكريات عباءةً تقيه صقيع
الغربة وتظله زمهرير الاشتياق ويتقيأ أيام طفولته على مضض ليعيد الدفء إلى روحه
التي مشطها الحنين بأسنان مشطه الفولاذية .. حمد كان في كل يوم من أيام غربته
تتناهشه أوجاع الحنين وتتكالب عليه ذئاب الاشتياق .. وبعد صراع لم يدم طويلاً قرر
العودة إلى أرض الوطن محملاً بملأ السماوات والأرض عشقاً لهذا الوطن وفي أول ولوج
لقدميه أرض المطار خلع ذاته المتعبة من وجع الغياب ليرتدي الوطن جلباباً طاهراً
نقياً .. وبعد أن أفطرت رئتاه برائحة الوطن بعد صوم دام لعدة سنوات تحركت فيه
غريزة البحث عن الجزء الأخرى من الوطن انه قلب ( غيدة ) .. غيدة تلك الأنثى
الملكوتية التي لا تحدها الأبعاد الثلاثة ولا يبتلعها الثقب الأسود .. فتش عنها في
كل مكان . . الخورة .. كورنيش العشار .. جزيرة السندباد .. ابو الخصيب .. الزبير ..
الحيانية .. الطويسة .. 5 ميل
.. تلك الأماكن التي كانا يلتقيان فيها ولم يجدها .. تصفح سجلات الراقدين في جميع
المستشفيات واعتاد أرصفة مراكز الشرطة وسأل عنها القطارات ونوارس شط العرب بل انه
اضطر إلى الغوص الى قاع شط العرب ليسأل عنها السفن الراكسة هناك منذ أكثر من
ثلاثين سنة ولكن دون جدوى طاف المقابر قبرا قبرا استجوب جميع الأموات على اختلاف
مللهم ونحلهم وألوانهم فلم يعرفها أحد .. وبعد أن إعيائه النصب واليأس تذكر أول
لقاء جمعه بغيدة في بستان زاير حمدان عندما نقشا حروف اسميهما داخل قلب حب على ( كرب
نشوة البرحي ) فلم يجد في المكان سوى أعجاز نخل خاوية .. اتكأ على بقايا جذع ( البرحية
) بعدها أخذته إغفاءة صمت ثم أرعدت وأبرقت وأمطرت عيناه لؤلؤا من نرجسٍ وقال في
امتعاض: لم أتذوق يوماً حلاوة هذا الوطن ولا حتى بحلم عابر وعاري حتى عن المشاهد
والصور مجرد حلم وان كان بالأسود والأبيض آهٍ يا وطني كم منيت نفسي أن لا أستنشق
فيك (شعواط) احتراق خبز أمي .. وسرعان ما أفاق من نوبة جنونه حمد فوجد نفسه غريبا
ليس له موطئ قِدم في الوطن ولا قلب ( غيدة ) يسكن إليه عندها ( كَعر) بأعلى صوته (
اخلي طين الله على راسي واسب واشتم بالزمن لا صفولي عزاز كَلبي ولا صفى عندي وطن )
. . . ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق